أي رمضان رمضانك ؟
[صورة مرفقة: 969686_621410371211213_926982937_n.jpg]
https://2img.net/u/2515/11/11/56/smiles/1371890812.gif:D لطالما حدثْنا أنفسنا باهْتِبَال فرصة رمضان، ولكم مَنَّيْنَاها بصلاحها فيه، ولطالما عاهدنا أنفسنا قبل دخوله بأَوْبةٍ حَقّةٍ وتوبةٍ صادقةٍ ودمعةٍ حارةٍ ونفسٍ متشوّقةٍ، ولكن كلما أتى قضى الشيطانُ على الأمنية، وخَاسَتِ النفسُ الأمارةُ بالسوء بعهدها وغدرت، فثابت لياليَ ورجعت أيامًا، ثم عادت لسالف عهدها كأنْ لم تَغْنَ بنور رمضان وضيائه.
وها نحن -أيها الأحبة في الله- يطالعنا شهرٌ وموسمٌ من الخير جديد، فأيُ رمضانٍ يكونُ رمضانُك هذه المرة؟! هل هو رمضانُ المسَوِّفِين الكسالى، أم رمضان المسارعين المجدين؟! هل هو رمضان التوبة، أم رمضان الشِقْوَة؟! هل هو شهرُ النعمةِ، أم شهرُ النِّقْمة؟! هل هو شهر الصيام والقيام، أم شهر الموائد والأفلام والهيَام؟!هذا ما يعْتَلِجُ بالفؤاد ويدُور بالخَلَد.
ها هو هلال رمضان قد حلَّ، ووجه سعدِهِ قد طلَّ، رمضان هلَّ هلاله، وخيّمت ظلاله، وهَيْمَنَ جلاله، وسَطَع جماله، لقد أظلّنا موسم كريم الفضائل، عظيم الهبات والنَّوَائل، جليل الفوائد والمكارم. أيام وليالي رمضان نفحاتُ الخير ونسائم الرحمة والرضوان، فما ألذّها من أيام معطّرةٍ بالذكر والطاعة، وما أجملها من ليالٍ منوّرةٍ بابتهالات الراغبين وحنين التائبين.
رمضان المنحةُ الربّانية والهبةُ الإلهية، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].
شهرٌ يَفُوقُ على الشهورِ بليلةٍ *** مِن ألفِ شهرٍ فُضّلت تَفْضِيلا
طُوبى لعبدٍ صَحَّ فيه صيامُهُ *** ودعا الْمهيمنَ بُكْرَةً وأَصِيلا
وبِلَيْلِهِ قد قامَ يَختمُ وِرْدَهُ *** مُتَبَتِّلاً لإلَهِهِ تَبْتِيلا
رمضان أشرُف الشهور، وأيامُه أحلى الأيام، يعاتِبُ الصالحونَ رمضانَ على قلة الزيارة وطول الغياب، فيأتي بعد شوقٍ ويَفِدُ بعد فراق، فيجيبه لسانُ الحال قائلاً:
أهلاً وسهلاً بالصيامْ *** يا حَبِيبا زارنَا في كل عامْ
قد لقيناك بحبٍّ مُفْعَمٍ *** كُلُّ حُبٍّ في سوى المولى حَرامْ
فاقْبَلِ اللهمَّ ربي صومَنا *** ثُم زدنا من عَطَايَاك الجِسَامْ
لا تُعَاقِبْنا فقد عاقَبَنا *** قَلَقٌ أسهرنا جُنْحَ الظَّلامْ
أخي الحبيب، إن رمضانَ فرصةٌ من فرصِ الآخرةِ التي تحمل في طَيَّاتها غفرانَ الذنوب وغسْلَ الحَوْب، وكم تمر بنا الفرص ونحن لا نشعر. هذه فرصة وما أعظمها، تحملُ سعادةَ الإنسان الأبدية، فأين المبادرون؟! وأين المسارعون؟!
إن الصيام هو المدرسة التي يتعلمُ منها المسلمون، ويتهذّب فيها العابدون، ويتَحَنَّثُ فيها المُتَنَسِّكون.
جاء شهرُ الصيامِ بالبركاتِ *** فأكرِمْ به من زائرٍ هو آتِ
نعم، إنه شهر البركات والرحمات، فرمضان شهر الطاعة والقُرْبَى والبر والإحسان والمغفرة والرحمة والرضوان والعتق من النيران، ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إذا دخل رمضان فُتحَت أبواب الجنة، وغُلِّقَت أبواب جهنم، وسُلْسِلت الشياطين))، وعنه قال: قال رسول الله: ((إذا كان أولُ ليلةٍ من رمضانَ صُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدَةُ الجن، وغُلِّقَت أبواب النيران فلم يُفتَح منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقْبِل، ويا باغي الشر أقْصِر، ولله عتقاءُ من النار، وذلك كُلَ ليلة)) رواه الترمذيُ وابنُ ماجه والنسائيُ وحسّنهُ الألبانيُ.
الصيامُ يُصلِح النفوسَ، ويدفع إلى اكتساب المحامد والبُعد عن المفاسد. به تُغفر الذنوبُ، وتُكفَّر السيئات، وتزدادُ الحسنات، يقول المصطفى: ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه.
نعم يا عبد الله، رمضانُ سببٌ لتكفير الذنوب والسيئات إلا الكبائر، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مُكَفِّرَات لما بينهنّ إذا اجتُنِبت الكبائر))رواه مسلم، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ((فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفّرها الصلاة والصوم والصدقة)) متفق عليه.
رمضان فيه إجابةُ الدعوات وإقالةُ العَثَرات، قال : ((لكل مسلمٍ دعوةٌ مستجابةٌ يدعو بها في رمضان))، ويقول: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم)) رواه أحمد.
هذه هي فرصة رمضان، فأيُ رمضانٍ يكونُ رمضانك؟! وتلك هي نعمة رمضان، فماذا أنت فاعل؟! وماذا أنت صانع؟!
أتى رمضانُ مزرعةُ العبادِ *** لتطهيرِ القلوبِ من الفسادِ
فأدِّ حقوقَهُ قولاً وفعلاً *** وزادكَ فاتَّخذهُ للمَعَادِ
فمن زَرَع الحبوبَ وما سَقَاها *** تأوَّهَ نادِما يومَ الحصَادِ
إن شهرًا بهذه الصفات وتلك الفضائل والمكرمات لحَريّ بالاهْتِبَال والاهتمام، فهل هيّأت نفسك -أخي المسلم- لاستقباله وروَّضْتَها على اغتنامه؟! عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله: ((قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، يُفْتَحُ فيه أبوابُ الجنة، ويُغْلقُ فيه أبواب الجحيم، وتُغَلُّ فيه الشياطين، فيه ليلةٌ خير من ألف شهر، مَن حُرِمَ خيرها فقد حُرِمْ)) رواه أحمدُ والنسائيُ وصحّحه الألباني.
لقد كان الرسولُ يبشّر أصحابه بقدوم رمضان وإتيانه، كُل ذلك شَحْذًا للهِمَم وإذْكاءً للعزائم وتهيئةً للنفوس، حتى تُحسنَ التعامل مع فرصةِ رمضان، وحتى لا تفوِّتها، وهذا شأن السلف الصالح رحمهم الله تعالى، قال مُعَلّى بنُ الفْضَلِ عن السلف: "إنهم كانوا يدعون الله جل وعلا ستة أشهر أن يبلّغهم رمضان، ويدعونه ستةً أخرى أن يتقبّله منهم"، وقال يحيى بنُ كثيرٍ رحمه الله كان من دعائهم: "اللهم سلِّمني إلى رمضان، وسلِّم لي رمضان، وتسلَّمَه مني فتقبّله".
أيها الأحبة في الله، قدوم رمضان تلو رمضان يدل على تعاقب الأيام، فالأيام تمضي، والسنون تجري، وكُلٌّ إلى داع الموت سيُصغِي:
تَمرّ بنا الأيامُ تَتْرَى وإنَّما *** نُسَاقُ إلى الآجالِ والعينُ تنظرُ
فلا عائدٌ ذاك الشبابُ الذي مَضَى*** ولا زائلٌ هذا الْمَشِيبُ المُكَدّرُ
عباد الله، ها هو شهر العزة والكرامة، شهر ال***************************************** والنصر، شهر الجدية والعزيمة، ها هو قد أتى، فهل آن للأمة أن تنفضَ عنها غبارَ التبعية؟! هل آن لها أن ترفعَ عن نفسها أسباب الذلة والهوان؟!
لقد زارنا رمضان مرات عديدة، فما زارنا في مرة إلا وجَدَنا أسوأ من العام الذي قبله؛ أممٌ مُتَناثِرَةٌ، وقلوبٌ مُتَنافِرَة، ودولٌ متقاطِعةٌ، وأحزابٌ مُتصارِعة، وفتنٌ مُحْدِقَةٌ، وشهواتٌ مُفرقةٌ، الأمة في مَسَاغِبِها ومجاعاتها وأمراضها.
رمضان أتى بخيراته وبركاته، فكيف حال الناس؟! بل كيف حال الأمة الإسلامية؟! رمضان آتٍ والأمةُ تَمِيدُ بها الأرض جرّاءَ تسلّط الأعداء على ديارها، الأرضُ المباركةُ تعاني الذلة والهوان. رمضان آتٍ والأمة لا زالت تغالب الصليب في أفغانستان والعراق، واليهود في فلسطين، والإلحادَ والشيوعيةَ في الشيشان، وتقاسي الأمرَّين وهي توصَمُ ظلمًا وزورًا بالغلّو والتطرّف والإرهاب.
رمضان آتٍ -يا عبد الله- فأيُ رمضان يكون رمضانك؟! وما استعدادك؟! وما مراسم استقبالك له؟! فالناس في استقباله أقسام، فهل أنت -يا أخي- من القسم الفَرِحِ بقدومه؛ لأنه يزداد به قُرْبَى و زلفى إلى ربه جل وعلا، وهذا شأن المؤمنين: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس: 57، 58]، ونبينا محمد على رأس هؤلاء، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل في كل ليلة، فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المُرْسَلَة. متفق عليه.
وهناك صنف ثان -وأعيذك بالله من حاله- لا يعرف ربه إلا في رمضان، فلا يصلي ولا يقرأ القرآن إلا في رمضان، وهذه توبةٌ زائفةٌ ومخادِعةٌ وتَسْوِيلٌ من الشيطان، وبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان.
ويا حسرة على أقوام تُعَساء يستقبلونه بالضَّجَر والتضايق والحرج، على أنه شهر جوع نهاري وشبع ليلي. إن بعض العصاة يرونه مانعًا لهم من شهواتهم ومن مآربهم الباطلة، فهم كالذئاب في الليل تَعْوِي، وكالجيف في النهار تَخُور كما يَخُور الثور. ويا عجبًا هل يُتَأفَّف من شهر الرضوان والرحمة؟! لا والله، بل هو شهر الخير والنعمة والبركة. إن الواحد من هؤلاء ـ هداهم الله ـ يُحس بالحرمان من الشهوات، ولذلك تراهم إذا قدم رمضان غيرَ فرحين بقدومه؛ لأن هؤلاء يريدون أن يغترفوا من حَمْأَة اللذة المحرمة، حتى لقد قال بعض التُّعَساء من أولاد الخلفاء كما ذكره الحافظ ابن رجب في الوظائف:
دعانِيَ شهرُ الصوم لا كان من شِهْرِ*** ولا صُمتُ شهرًا بعده آخرَ الدهرِ
فلو كان يُعْدِيني الأنامُ بقوةٍ ***على الشهر لاسْتَعدَيتُ قومي على الشهرِ
والذي حصل لهذا الشاب أن ابتلاه الله بمرض الصَّرَع، فكان يُصْرَعُ في اليوم مراتٍ وكراتٍ، وما زال كذلك حتى مات قبل أن يصوم رمضان الآخر، نسأل الله تعالى حسن الختام.
أيها المسلم، إن من نعم الله تعالى عليك أن مدّ في عمرك، ومدّ في أنفاسك، وجعلك تدرك خيرات هذا الشهر العظيم، فاحمدوا الله ـ عباد الله ـ أن بلَّغكم، واشكروه على أن أخَّركم إليه ومكَّنكم، فكم من طامعٍ بلوغَ هذا الشهر فما بلغه، كم مؤمِّل إدراكَه فما أدركه، فاجأه الموت فأهلكه.
أيها المسلمون، بلغناهُ وكم حبيب لنا فقدناه، أدركناه وكم قريبٍ لنا أضجعناه، صُمناه وكم عزيز علينا دفناه.
يا ذا الذي ما كفَاهُ الذنبُ في رجب *** حتَّى عصى ربَّه في شهر شعبانِ
لقد أظلك شهرُ الصّوم بعدهُما *** فلا تصيّره أيضًا شهرَ عِصْيانِ
واتل القُرَان وسبِّح فيه مجتهدًا *** فإنه شهر تسبيح وقرآنِ
كم كنت تعرف ممن صام في سَلَفٍ*** من بين أهل وإخوان وجيرانِ
أفناهم الْموتُ واستبقاك بعدَهم *** حيًا فما أقرب القاصي من الداني
يا عبدَ الله، يا أمةََ الله، هل يأتي عليكما رمضان وأنتما في قوةٍ وعافيةٍ؟! فكم من إنسان صام رمضان الفائت في عافيةٍ وصحة وقوة يأتي عليه رمضان القابل وهو قعيدُ الفراش أسيرُ المرضِ، هل يأتي عليك رمضان وأنت في أمن وأمان على نفسك وأهلك ومالك؟!
يا عبد الله، يا مَن تعيش آمنًا مُستقِرًّا تتلذّذ بخيرات الله، خِلْ نفسَك واحدًا من هؤلاء الذين يصومون وهم أُسارى أو يتسحّرون ويفطرون على الحدود وفي الملاجئ، خِلْ نفسك واحدًا من أولئك الذين يحتاجون إلى الفِطْر دفاعًا عن الملة والدين، خِلْ نفسك جائعًا مطرودًا شريدًا كما يحصل للمسلمين الفلسطينيين وغيرهم من المسلمين في غير ما مكان، الذين يعانون آلام الحصار والتشرذم والشتات وتسلط الكفار والفجار.
رمضان شهر الشعور بإخوانك المسلمين، فأي رمضان رمضانك؟! هل شعرت بإخوانك في أقاصي الأرض ومغاربها؟! لا بد للمسلم الصائم أن يشعر بآلام المسلمين، وأن يستشعر حال إخوانه في كل مكان، فإذا جاع تذكر أن آلاف البطون جوعى تنتظر لقمةً، فهل من مُطعِم؟! وهو إذا عطش تذكّر أن آلاف الأكباد عطشى تنتظر قطرةً من الماء، فهل من ساقٍ؟! وهو إذا لبس تذكر أن آلاف الأجساد قد لحقها العري، فهل من كاسٍ؟! يشعر بنعمة الله جلا وعلا عليه أن أعطاه السحور والإفطار وغيره محروم، أن ألبسه وغيره عارٍ، فالحمد لله على نعمائه.
رمضان شهر العبادة، فأيُ رمضان رمضانك؟! هل اتخذت منه فرصة لتربية نفسك على العبادة؟! فالصيام يربينا على العبادة، فلئن كان المسلم يعبد ربه جل وعلا في سائر شهوره وأيامه إلا أنه يأخذ في رمضان دورةً عباديةً يزيد فيها من جُرُعَات الطاعة ونَكَهاتِ الإيمان والإخلاص، حتى يقوى على ما تبقى من الشهور، ويجعل هذه الفرصة مُنطَلَقًا إلى فعل الخيرات، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره. أخرجه مسلم.
وليالي رمضان تاج ليالي العام، ودُجَاها ثمينة بظلمائها، فيها تصفو الأوقات وتحلو المناجاة، قال: ((أفضلُ الصلاة بعد الفريضة صلاةُ الليل)). ورمضانُ شهر القيام، يقول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه. وقيام رمضان أمر مشروع، فعلى المسلم أن يحرص على أداء صلاة التراويح، وأن يكملها مع الإمام حتى ينصرف، قال
(من قام مع إمامه حتى ينصرف كُتِب له قيام ليلة)) رواه أهل السنن وهو صحيح. فلله الحمد والمنة، يقومُ المصلي ساعةً من الليل مع الإمام فكأنما قام الليل كله.
ولا ننس -أيها الإخوة- الاهتمام بالفرائض أولاً، والمواظبة عليها في المساجد جماعة، فالله عز وجل يحب التقرب إليه بالفرائض، فلا ننس الفرض ونهتم بالنوافل والمستحبات.
رمضان شهر النفحات والبركات، فلماذا لا نقوم رمضان؟! لماذا لا نجرّب لذّة القرآن، ولذّة المناجاة والدعاء؟! لماذا لا نجرّب وقت الأسحار وهَجِيع الليل؟! لماذا لا ننطرح بين يدي مولانا؟! فربنا ينزل في ثلث الليل الأخير نزولاً يليق بجلاله وعظمته يعرض نفحاته ورحماته، فلماذا لا نتعرّض لرحمات الله؟!
قُم في الدُّجَى واتْلُ الكتابَ ولا تَنمْ *** إلا كنومة حائِرٍ وَلْهَانِ
فلربّما تأتي المنيّة بغتةً *** فتُسَاقُ من فُرُشٍ إلى أكفانِ
يا حبّذا عينانِ في غَسَقِ الدُّجَى *** من خشية الرحمن باكيتانِ
فالله ينزلُ كُلّ آخر ليلةٍ *** لسمائه الدنيا بلا نُكْرَانِ
فيقولُ هل من سائلٍ فأجيبَه *** فأنا القريبُ أجيبُ منْ نادانِي
ولكن يا حسرةً على المحرومين، ويا حسرةً على المفتونين الذين يجعلون وقت السحر ووقت الاستغفار وقت النزول الإلهي فرصةً للعب واللهو ومشاهدة القنوات وتقليب الأبصار في الغانياتِ والمومساتِ، يا حسرةً على العباد.
رمضان شهر التقوى، فأي رمضان يكون رمضانك؟! هل درّبنا نفوسنا ووطَّنَّاها على هجر المعاصي؟! فرمضان فرصة لترك الذنوب، فالمعنى السامي للصيام أنه يجمع بين التقوى الحسية والتقوى المعنوية، فمن أخلّ بواحدةٍ منهما فما استكمل الصيام، ولذا قال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]. يؤكد هذا المعنى -أيها الصُوَّام- قول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري، قال بعض السلف: "أهون الصيام ترك الطعام والشراب".
فيا أهل اللهو والعبث، ويا أهل البرامج والفوازير والمسابقات، نبيكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث)) رواه ابن حبان، هذا هو الصيام، فإذا تحقق فيه ذلك كان جُنَّةً من المعاصي. الصيام الذي لا يمنعك من النظر إلى الحرام والسب والشتم والتلاحي والخصام والغيبة والنميمة والقِيل والقال والولوغ في الأعراض فليس بصيام، إنما الصيام من اللغو والرفث، إذا تحقّق هذا كان جُنَّةً من المعاصي، وبالتالي جُنَّةً ووقايةً من النار، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ((الصيام جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بها العبد من النار)) رواه أحمد وحسّنه الألباني، وقال أيضًا: ((الصيام جُنَّة، فإذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفثْ ولا يفسقْ ولا يجهلْ، فإن سابَّه أحدٌ فليقل: إني صائم)) رواه الشيخان، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
(رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
وقال الصحابيُ الجليلُ جابرُ بنُ عبد الله: (إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وقارٌ وسكينةٌ، ولا يكنْ يومُ صومِك ويومُ فطرِك سواءً)، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: "ينبغي للصائم أن يتعاهد صومَه من لسانه، ولا يماريَ في كلامه، كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا: نحفظُ صومنا، ولا نغتابُ أحدًا".
إذا لَم يكن في السمع مني تَصَاوُنٌ *** وفِي بصري غَضٌّ وفِي مَنْطِقِي صَمْتُ
فحظِّي إذًا من صومي الجوعُ والظمأ *** فإن قلتُ إني صمتُ يومي فما صمتُ
أيها الأحبة، كان سَلف الأمّة يستعدون لرمضان بهممٍ عالية وعزائمَ قويةٍ وإراداتٍ ماضية؛ ليغتنموا رمضان في طاعة الله، ليجعلوه منطلقًا للخيرات ومنطلقًا إلى التوبة وإصلاح النفس والحال، ومع ذلك فإننا نجد عجبًا من بعض الناس، يستعدون لرمضان، ولكن بما يُفسد على الناس صومهم، ويهدم أخلاقهم، ويبعدهم عن تحسس واستشعار معاني الصيام والقيام، فيستعدون باللهو والعبث، وبما يفسد حرمة هذا الشهر الكريم، يستعدون لنا بالمسرحيات وبالمسلسلات وبالأفلام التي وإن لم تكن هابطة أو خالعة أو عارية -كما يقولون- فلا تعدو عن كونها مُبعِدةً للناس عن صومهم وقيامهم وعباداتهم. إنها مسلسلات جعلت هدفها الاستهزاء بسنة سيد المرسلين والسخرية بعباد الله الصالحين ومحاربة ثوابت الدين، فمرةً يغمزون اللحية والغيرة، وتارة يحتجون على المحرم للمرأة الخ... ناهيك عن تصويرهم للمستقيم على دينه المتمسك بسنة نبيه بصورة الأَبْلَه والموسوس والمتناقض، أما ظهور الفاتنات من النساء فحدّث ولا حرج.
يسبُّون دينَ الله في شهر صومهم *** فعن دينهم صاموا وبالكفر أفطروا
وبعض المفتونين يدير "الريموت" على أجساد العرايا، ففي الليلة الواحدة يدور الواحد منهم على العالم شرقًا وغربًا، يفسد صيامه بالنظر الحرام، وباللهو الحرام، وبالفعل الحرام.
إنني أقول لمن ابتلوا بهذه القنوات أو المجلات أو بتضييع أوقاتهم فيما لا يفيد ولا ينفع: لماذا لا نفكر أن نبدل السيئة بالحسنة؟! لماذا لا نغتسل بماء التوبة النصوح من حَمْأَة الخطايا؟! لماذا لا نجعل هذا الشهر الكريم بداية لأن نهجر هذه القاذورات، سِيّما ونفوسنا مهيأة للخيرات؟!
لعلها -أيها الأحبة في الله- أن تكون بداية النهاية -إن شاء الله- لكل شيء يُبعِد عن الله ويُسخِطه، ولعلها أن تكون بداية الانطلاقة الحقيقية في المسارعة إلى الخيرات وإرضاء رب الأرض والسماوات.
رمضان شهر التوبة، فأي رمضان يكون رمضانك؟! صعد رسول الله المنبر فقال: ((آمين، آمين، آمين))، فقيل: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت: آمين، آمين، آمين! فقال: ((إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من أدرك شهرَ رمضان فلم يُغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، قلت: آمين)) أخرجه ابنُ خزيمة وابنُ حبان وانظر صحيح الترغيب والترهيب.
فالوحَي الوحَي قبل أن لا توبة تُنال، ولا عثرةَ تُقال، ولا يُفدَى أحدٌ بمال، فحُثّوا حَزْم جزمكم، وشدّوا لِبْدَ عزمكم، وأروا الله خيرًا من أنفسكم، فبالجدّ فاز من فاز، وبالعزم جاز من جاز، واعلموا أن من دام كسله خابَ أمله وتحقَّق فشله.
يا عبد الله، هذا أوان الجد إن كنت مجدًّا، هذا زمان التعبّد إن كنت مستعدًّا، هذا نسيم القبول هَبّ، هذا سيل الخير صَبّ، هذا الشيطان كَبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحبّ، هذا زمان الإياب، هذا مغتسلٌ بارد وشراب، رحمة من الكريم الوهاب، فأسرعوا بالمتاب، قبل إغلاق الباب. فبادر الفرصة، وحاذر الفَوْتَة، ولا تكن ممن أبى، وخرج رمضان ولم ينل فيه الغفران والمنى.
ها هو موسم التوبة والإنابة، فباب التوبة مفتوح، وعطاء ربك ممنوح، فمتى يتوب من أسرف في الخطايا وأكثرَ من المعاصي إن لم يتب في شهر رمضان؟! ومتى يعود إن لم يعد في شهر الرحمة والغفران؟! فبادر بالعودة إلى الله، واطرق بابَه، وأكثر من استغفاره، واغتنم زمنَ الأرباح، فأيام المواسم معدودة، وأوقات الفضائل مشهودة، وفي رمضان كنوز غالية، فلا تضيِّعها باللهو واللعب وما لا فائدة فيه، فإنكم لا تدرون متى ترجعون إلى الله، وهل تدركون رمضان الآخر أو لا تدركونه. وإن اللبيب العاقل من نظر في حاله، وفكَّر في عيوبه، وأصلح نفسه قبل أن يفجأه الموت، فينقطع عمله، وينتقل إلى دار البرزخ، ثم إلى دار الحساب.
جعل الله صيامنا صيامًا حقيقيًّا مقبولاً، وجعله إيمانًا واحتسابًا، إيمانًا بما عنده، واحتسابًا لثوابه، كما أسأله تعالى أن يجعلنا وإياكم وسائر المسلمين ممن صام الشهر، واستكمل الأجر، وفاز بليلة القدر، كما أسأله أن يجعلنا ممن يصومونه ويقومونه إيمانًا